فصل: تفسير الآية رقم (33)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

قرأ الجمهور «وقِرن» بكسر القاف، وقرأ عاصم ونافع «وقَرن» بالفتح، فأما الأولى فيصح أن تكون من الوقار تقول وقر يقر فقرن مثل عدن أصله أو قرن، ويصح أن تكون من القرار وهو قول المبرد تقول قررت بالمكان بفتح القاف والراء أقر فأصله أقررن حذفت الراء الواحدة تخفيفاً، كما قالوا في ظللت ظلت ونقلوا حركتها إلى القاف واستغني عن الألف، وقال أبو علي‏:‏ بل أعل بأن أبدلت الراء ياء ونقلت حركتها إلى القاف ثم حذفت الياء لسكونها وسكون الراء بعدها، وأما من فتح القاف فعلى لغة العرب قرِرت بكسر الراء أقر بفتح القاف في المكان وهي لغة ذكرها أبو عبيد في الغريب المصنف، وذكرها الزجاج وغيره، وأنكرها قوم، منهم المازني وغيره، قالوا وإنما يقال قررت بكسر الراء من قرت العين، وأما من القرار فإنما هو من قررت بفتح الراء، وقرأ عاصم «في بِيوتكن» بكسر الباء، وقرأ ابن أبي عبلة «واقرِرن» بألف وصل وراءين الأولى مكسورة، فأمر الله تعالى في هذه الآية نساء النبي بملازمة بيوتهن ونهاهن عن التبرج وأعلمهن أنه فعل ‏{‏الجاهلة الأولى‏}‏، وذكر الثعلبي وغيره أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها، وذكر أن سودة قيل لها لم لا تحجين ولا تعمرين كما يفعل أخواتك، فقالت قد حججت واعتمرت وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي قال الراوي‏:‏ فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى خرجت جنازتها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وبكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل وحينئذ قال لها عمار‏:‏ إن الله أمرك أن تقري في بيتك، و«التبرج»، إظهار الزينة والتصنع بها ومنه البروج لظهورها وانكشافها للعيون، واختلف الناس في ‏{‏الجاهلية الأولى‏}‏ فقال الحكم بن عيينة ما بين آدم ونوح وهي ثمانمائة سنة، وحكيت لهم سير ذميمة، وقال الكلبي وغيره ما بين نوح وإبراهيم، وقال ابن عباس ما بين نوح وإدريس وذكر قصصاً، وقالت فرقة ما بين موسى وعيسى، وقال عامر الشعبي ما بين عيسى ومحمد، وقال أبو العالية هو زمان سليمان وداود كان فيه للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبيين‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقتها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة لأنهم كانوا لا غيرة عندهم فكان أمر النساء دون حجبة وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى، وقد مر اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبيل الإسلام فقالوا جاهلي في الشعراء، وقال ابن عباس في البخاري سمعت أبي في ‏{‏الجاهلية‏}‏ يقول إلى غير هذا، و‏{‏الرجس‏}‏ اسم يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسات والنقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن ‏{‏أهل البيت‏}‏، ونصب ‏{‏أهل البيت‏}‏ على المدح أو على النداء المضاف، أو بإضمار أعني، واختلف الناس في ‏{‏أهل البيت‏}‏ من هم، فقال عكرمة ومقاتل وابن عباس هم زوجاته خاصة لا رجل معهن، وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ هي الجمهور ‏{‏أهل البيت‏}‏ علي وفاطمة والحسن والحسين، وفي هذا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو سعيد الخدري‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نزلت هذه الآية في خمسة فيّ وفي علي وفاطمة والحسن والحسين» رضي الله عنهم، ومن حجة الجمهور قوله ‏{‏عنكم‏}‏ و‏{‏يطهركم‏}‏ بالميم، ولو كان النساء خاصة لكان عنكن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والذي يظهر إليّ أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك البتة، ف ‏{‏أهل البيت‏}‏ زوجاته وبنته وبنوها وزوجها، وهذه الآية تقضي أن الزوجات من ‏{‏أهل البيت‏}‏ لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن، أما أن أم سلمة قالت نزلت هذه الآية في بيتي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فدخل معهم تحت كساء خيبري وقال «هؤلاء أهل بيتي»، وقرأ الآية وقال اللهم «أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»، قالت أم سلمة فقلت‏:‏ وأنا يا رسول الله، فقال «أنت من أزواج النبي وأنت إلي خير»، وقال الثعلبي قيل هم بنو هاشم فهذا على أن ‏{‏البيت‏}‏ يراد به بيت النسب، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم وروي نحوه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

اتصال هذه الألفاظ التي هي ‏{‏واذكرن‏}‏ تعطي أن ‏{‏أهل البيت‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏ نساؤه، وعلى قول الجمهور هي ابتداء مخاطبة أمر الله تعالى أزواج النبي عليه السلام على جهة الموعظة وتعديد النعمة بذكر ما يتلى في بيوتهن، ولفظ الذكر هنا يحتمل مقصدين كلاهما موعظة وتعديد نعمة‏:‏ أحدهما أن يريد ‏{‏اذكرن‏}‏ أي تذكرنه واقدرنه قدره وفكرن في أن من هذه حاله ينبغي أن تحسن أفعاله‏.‏ والآخر أن يريد ‏{‏اذكرن‏}‏ بمعنى احفظن واقرأن والزمنه الألسنة، فكأنه يقول واحفظوا أوامر ونواهيه، وذلك هو الذي ‏{‏يتلى في بيوتكن من آيات الله‏}‏، وذلك مؤد بكن إلى الاستقامة، ‏{‏والحكمة‏}‏ هي سنة الله على لسان نبيه دون أن يكون في قرآن متلو، ويحتمل أن يكون وصفاً للآيات، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لطيفاً‏}‏ تأنيس وتعديد لنعمه، أي لطف بكن في هذه النعمة، وقوله ‏{‏خبيراً‏}‏ تحذير ما، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن المسلمين والمسلمات‏}‏ الآية روي عن أم سلمة أنها قالت‏:‏ إن سبب هذه الآية أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول الله يذكر الله تعالى الرجال في كتابه في كل شيء ولا يذكرنا، فنزلت الآية في ذلك، وروى قتادة أن نساء من الأنصار دخلن على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن لهن‏:‏ ذكركن الله في القرآن ولم يذكر سائر النساء بشيء فنزلت الآية في ذلك، وروي عن ابن عباس أن نساء النبي قلن ما له تعالى يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات، فنزلت الآية في ذلك، وبدأ تعالى بذكر الإسلام الذي يعم الإيمان وعمل الجوارح، ثم ذكر الإيمان تخصيصاً وتنبيهاً على أنه عظم الإسلام ودعامته، و«القانت»‏:‏ العابد المطيع، و«الصادق» معناه‏:‏ فيما عوهد عليه أن يفي به ويكمله، و«الصابر»‏:‏ عن الشهوات وعلى الطاعات في المكره والمنشط، و«الخاشع»‏:‏ الخائف لله المستكين لربوبيته الوقور، و«المتصدق»‏:‏ بالفرض والنفل، وقيل هي في الفرض خاصة، والأول أمدح، و«الصائم» كذلك‏:‏ في الفرض والنفل، و«حفظ الفرج» هو‏:‏ من الزنا وشبهه وتدخل مع ذلك الصيانة من جميع ما يؤدي إلى الزنا أو هو في طريقه، وفي قوله‏:‏ ‏{‏الحافظات‏}‏ حذف ضمير يدل عليه المتقدم والحافظاتها، وفي ‏{‏الذاكرات‏}‏ أيضاً مثله، و«المغفرة» هي ستر الله ذنوبهم والصفح عنها، و«الأجر العظيم» الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ‏(‏36‏)‏ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان‏}‏ لفظه النفي ومعناه الحظر والمنع من فعل هذا، وهذه العبارة «ما كان» و«ما ينبغي» ونحوها تجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون، وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لكم تنبتوا شجرها‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 60‏]‏، وربما كان العلم بامتناعه شرعاً كقوله ‏{‏وما كان لبشر أن يكلمه الله‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 51‏]‏، وربما كان حظره بحكم شرعي كهذه الآية، وربما كان في المندوبات كما تقول‏:‏ ما كان لك يا فلان أن تترك النوافل ونحو هذا، وسبب هذه الآية فيما قال قتادة وابن عباس ومجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش فظنت أن الخطبة لنفسه فلما بين أنه إنما يريدها لزيد بن حارثة كرهت وأبت فنزلت الآية فأذعنت زينب حينئذ وتزوجته، وقال ابن زيد إنما نزلت بسبب أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فزوجها من زيد بن حارثة، فكرهت ذلك هي وأخوها، وقالا إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا غيره، فنزلت الآية بسبب ذلك، فأجابا إلى تزويج زيد، و‏{‏الخيرة‏}‏ مصدر بمعنى التخير، وهذه الآية في ضمن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏ وهذه الآية تقوى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 68‏]‏ أن تكون ‏{‏ما‏}‏ نافية لا مفعولة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر وشيبة والأعرج وعيسى «أن تكون» بالتاء على لفظ ‏{‏الخيرة‏}‏، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي والأعمش وأبو عبد الرحمن «أن يكون» على معنى ‏{‏الخيرة‏}‏ وأن تأنيثها غير حقيقي، وقوله في الآية الأخرى ‏{‏ما كان لهم الخيرة‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 68‏]‏ دون علامة تأنيث يقوي هذه القراءة التي بالياء، ثم توعد عز وجل وأخبر أن ‏{‏من يعص الله ورسوله فقد ضل‏}‏، وهذا العصيان يعم الكفر فما دونه، وكل عاص يأخذ من الضلال بقدر معصيته، ثم عاتب تعالى نبيه بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ تقول‏}‏ الآية، واختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب وهي في عصمة زيد وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو، ثم إن زيداً لما اخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظماً بالشرف قال له‏:‏ اتق الله فيما تقول عنها و‏{‏أمسك عليك زوجك‏}‏ وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها وهذا هو الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف، وقالوا خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالة الناس في ذلك فعاتبه الله تعالى على جميع هذا، وقرأ ابن أبي عبلة «ما الله مظهره»، وقال الحسن‏:‏ ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أشد عليه من هذه الآية، وقال هو وعائشة‏:‏ لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه، وروى ابن زيد في نحو هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب زيداً في داره فلم يجده ورأى زينب حاسرة فأعجبته فقال سبحان الله مقلب القلوب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وروي في هذه القصة أشياء يطول ذكرها، وهذا الذي ذكرناه مستوف لمعانيها، وذهب قوم من المتأولين إلى أن الآية لا كبير عتب فيها، ورووا عن علي بن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله إليه أن زيداً يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها له، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب وأنها لا تطيعه وأعلمه بأنه يريد طلاقها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية‏:‏ «اتق الله» أي في أقوالك و«أمسك عليك زوجك» وهو يعلم أنه سيفارقها وهذا هو الذي أخفى في نفسه ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم من أنه سيتزوجها، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه وقد أمره بطلاقها فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في أمر أباحه الله تعالى له وإن قال ‏{‏أمسك‏}‏ مع علمه أنه يطلق وأعلمه أن الله أحق بالخشية أي في كل حال، وقوله‏:‏ ‏{‏أنعم الله عليه‏}‏ يعني بالإسلام وغير ذلك، وقوله‏:‏ ‏{‏وأنعمت عليه‏}‏ يعني بالعتق وهو زيد بن حارثة، وزينب هي بنت جحش وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعلم تعالى أنه زوجها منه لما قضى زيد وطره منها لتكون سنة للمسلمين في أزواج أدعيائهم وليتبين أنا ليست كحرمة النبوة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد‏:‏ ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ، قال فذهبت ووليتها ظهري توقيراً للنبي صلى الله عليه وسلم وخطبتها ففرحت، وقالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها، و«الوطر»‏:‏ الحاجة والبغية، والإشارة هنا إلى الجماع، وروى جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم «وطراً زوجتكها»‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وذهب بعض النّاس من هذه الآية ومن قول شعيب ‏{‏إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 7‏]‏ إلى أن ترتيب هذا المعنى في المهور ينبغي أن يكون أنكحه إياها فيقدم ضمير الزوج لما في الآيتين، وهذا عندي غير لازم لأن الزوج في الآية مخاطب فحسن تقديمه، وفي المهور الزوجان غائبان فقدم من شئت فلم يبق ترجيح إلا بدرجة الرجال وأنهم القوامون، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان أمر الله مفعولاً‏}‏ فيه حذف مضاف تقديره وكان حكم أمر الله أو مضمن أمر الله، وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور أي التي شأنها أن تفعل، وروي أن عائشة وزينب تفاخرتا، فقالت عائشة‏:‏ أنا التي سبقت صفتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنة في سرقة حرير، وقالت زينب‏:‏ أنا التي زوجني الله من فوق سبع سماوات‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن أن جدي وجدك واحد وأن الله أنكحك إياي من السماء وأن السفير في ذلك جبريل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 44‏]‏

‏{‏مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ‏(‏38‏)‏ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏39‏)‏ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏40‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏42‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

هذه مخاطبة من الله تعالى لجميع الأمة، أعلمهم أنه لا حرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نيل ما فرض الله له وأباحه من تزويج زينب بعد زيد، ثم اعلم أن هذا ونحوه هو السنن الأقدم في الأنبياء من أن ينالوا ما أحل الله لهم، وحكى الثعلبي عن مقاتل وابن الكلبي أن الإشارة إلى داود عليه السلام حيث جمع الله بينه وبين من فتن بها، و‏{‏سنة‏}‏ نصب على المصدر أو على إضمار فعل تقديره الزم أو نحوه‏.‏ أو على الإغراء كأنه قال فعليه سنة الله، و‏{‏الذين خلوا‏}‏ هم الأنبياء بدليل وصفهم بعد بقوله ‏{‏الذين يبلغون رسالات الله‏}‏، و‏{‏أمر الله‏}‏ في الآية أي مأمورات الله والكائنات عن أمره فهي مقدورة، وقوله ‏{‏قدراً‏}‏ فيه حذف مضاف، أي ذا قدر، وقرأ ابن مسعود «الذين بلغوا رسالات الله، وقوله ‏{‏ولا يخشون أحداً إلا الله‏}‏ تعريض بالعتاب الأول في خشية النبي عليه السلام الناس، ثم رد الأمَر كله إلى الله وأنه المحاسب على جميع الأعمال والمعتقدات ‏{‏وكفى‏}‏ به لا إله إلا هو، ويحتمل أن يكون ‏{‏حسيباً‏}‏ بمعنى محسب أي كافياً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان محمد أبا أحد من رجالكم‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كريماً‏}‏ أذهب الله تعالى في هذه الآية ما وقع في نفوس منافقين وغيرهم من نقد تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب زوجة دعيه زيد بن حارثة لأنهم كانوا استعظموا أن تزوج زوجة ابنه، فنفى القرآن تلك النبوة وأعلم أن محمداً لم يكن في حقيقة أمره أبا أحد من رجال المعاصرين له، ولم يقصد بهذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له ولد فيحتاج إلى الاحتجاج بأمر بنيه بأنهم كانوا ماتوا، ولا في أمر الحسن والحسين بأنهما كانا طفلين ومن احتج بذلك فإنه تأول نفي البنوة عنه بهذه الآية على غير ما قصد بها وقرأ ابن أبي عبلة وبعض الناس» ولكن رسولُ الله «بالرفع على معنى هو رسول الله، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم والأعرج وعيسى» رسولَ الله «بالنصب على العطف على ‏{‏أبا‏}‏، وهؤلاء قرؤوا» ولكن «بالتخفيف، وقرأت فرقة» ولكنّ «بشد النون ونصب» رسولَ «على أنه اسم» لكنّ «والخبر محذوف، وقرأ عاصم وحده والحسن والشعبي والأعرج بخلاف» وخاتَم «بفتح التاء بمعنى أنهم به ختموا فهو كالخاتم والطابع لهم، وقرأ الباقون والجمهور» خاتِم «بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم أي جاء آخرهم، وروت عائشة أنه عليه السلام قال‏:‏» أنا خاتَم الأنبياء «

بفتح التاء، وروي عنه عليه السلام أنه قال‏:‏ «أنا خاتم ألف نبي»، وهذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفاً وسلفاً متلقاة على العموم التام مقتضية نصاً أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، وما ذكره القاضي ابن الطيب في كتابه المسمى بالهداية من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف، وما ذكره الغزالي في هذه الآية وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد إلحاد عندي وتطرق خبيث إلى تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوءة، فالحذر الحذر منه والله الهادي برحمته، وقرأ ابن مسعود «من رجالكم ولكن نبينا ختم النبيين»، قال الرماني ختم به عليه السلام الاستصلاح فمن لم يصلح به فميئوس من صلاحه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الله بكل شيء عليماً‏}‏ والمقصد به هنا علمه تعالى بما رآه الأصلح بمحمد وبما قدره في الأمر كله، ثم أمر تعالى عباده بأن يذكروه ‏{‏ذكراً كثيراً‏}‏، وجعل تعالى ذلك دون حد ولا تقدير لسهولته على العبد ولعظم الأجر فيه، قال ابن عباس لم يعذر أحد في ترك ذكر الله إلا من غلب على عقله، وقال الكثير أن لا تنساه أبداً، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم «أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبحوه بكرة وأصيلاً‏}‏ أراد في كل الأوقات مجدد الزمان بطرفي نهاره وليله، وقال قتادة والطبري وغيره الإشارة إلى صلاة الغداة وصلاة العصر‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وهذه الآية مدنية فلا تعلق بها لمن زعم أن الصلاة إنما فرضت أولاً صلاتين في طرفي النهار، والرواية بذلك ضعيفة، والأصيل من العصر إلى الليل، ثم عدد تعالى على عباده نعمته في الصلاة عليهم وصلاة الله تعالى على العبد هي رحمته له وبركته لديه ونشره عليه الثناء الجميل، وصلاة الملائكة هي دعاؤهم للمؤمنين، وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له‏:‏ يا رسول الله كيف صلاة الله على عباده‏؟‏ قال «سبوح قدوس رحمتي سبقت غضبي»‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ واختلف في تأويل هذا القول، فقيل إن هذا كله من كلام الله وهي صلاته على عباده، وقيل سبوح قدوس هو من كلام محمد تقدمت بين يدي نقطة باللفظ الذي هو صلاة الله وهو رحمتي سبقت غضبي، وقدم عليه السلام هذا من حيث فهم من السائل أنه توهم في صلاة الله تعالى على عباده وجهاً لا يليق بالله عز وجل، فقدم التنزيه لله والتعظيم بين يدي أخباره، وقوله ‏{‏ليخرجكم‏}‏ أي صلاته وصلاة ملائكته لكي يهديكم وينقذكم من الكفر إلى الإيمان، ثم أخبر تعالى برحمته بالمؤمنين تأنيساً لهم، وقوله ‏{‏يوم يلقونه‏}‏ قيل يوم القيامة المؤمن تحييه الملائكة ب «السلام» ومعناه السلامة من كل مكروه، وقال قتادة يوم دخولهم الجنة يحيي بعضهم بعضاً بالسلام، أي سلمنا وسلمت من كل مخوف، وقيل تحييهم الملائكة يومئذ، و«الأجر الكريم»، جنة الخلد في جواره تبارك وتعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 49‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏48‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

هذه الآية فيها تأنيس للنبي عليه السلام وللمؤمنين وتكريم لجميعهم، و‏{‏شاهداً‏}‏، معناه على أمتك بالتبليغ إليهم وعلى سائر الأمم في تبليغ أنبيائهم ونحو ذلك و‏{‏مبشراً‏}‏ معناه للمؤمنين، برحمة الله تعالى وبالجنة، ‏{‏ونذيراً‏}‏ معناه للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد، قال ابن عباس‏:‏ لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ومعاذاً فبعثهما إلى اليمن وقال «اذهبا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا فإن قد أنزل علي» وقرأ الآية‏.‏ والدعاء إلى الله تعالى هو تبليغ التوحيد والأخذ به ومكافحة الكفرة‏.‏ و‏{‏بإذنه‏}‏ معناه هنا بأمره إياك وتقديره ذلك في وقته وأوانه، ‏{‏وسراجاً منيراً‏}‏ استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه فكأن المهديين به والمؤمنين يخرجون به من ظلمة الكفر، وقوله ‏{‏وبشر‏}‏ الواو عاطفة جملة على جملة والمعنى منقطع من الذي قبله، أمره الله تعالى بأن يبشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ قال لنا أبي رضي الله عنه‏:‏ هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى لأن الله تعالى أمر نبيه أن يبشر المؤمنين ‏{‏بأن لهم‏}‏ عنده ‏{‏فضلاً كبيراً‏}‏، وقد بين تعالى الفضل الكبير ما هو في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 22‏]‏، فالآية التي في هذه السورة خبر والتي في ‏{‏حم عسق‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 1‏]‏ تفسير لها، وقوله تعالى، ‏{‏ولا تطع الكافرين والمنافقين‏}‏ نهي له عن السماع منهم في أشياء كانوا يطلبونها مما لا يجب وفي أشياء كانوا يدخلونها مدخل النصائح وهي غش إلى نحو هذا المعنى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودع آذاهم‏}‏ يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما أن يأمره بترك أن يؤذيهم هو ويعاقبهم فكأن المعنى واصفح عن زللهم ولا تؤذهم فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول، ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين وناسخه آية السيف، والمعنى الثاني أن يكون قوله ‏{‏ودع آذاهم‏}‏ بمعنى أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل، وهذا تأويل مجاهد‏.‏ ثم أمره تعالى بالتوكل عليه، وأنسه بقوله ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏، ففي قوة الكلام وعد بنصر وتقدم القول في ‏{‏كفى بالله‏}‏، والوكيل الحافظ القائم على الأمر، ثم خاطب تعالى المؤمنين بحكم الزوجة تطلق قبل البناء، واستدل بعض الناس بقوله ‏{‏ثم طلقتموهن‏}‏ وبملهة ثم على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح، وأن من طلق المرأة قبل نكاحها وإن عينها فإن ذلك لا يلزمه، وقال هذا نيف على ثلاثين من صاحب وتابع وإمام، سمى البخاري منهم اثنين وعشرين، وقالت طائفة عظيمة من أهل العلم‏:‏ إن طلاق المعينة الشخص أو القبيل أو البلد لازم قبل النكاح، فمنهم مالك وجميع أصحابه وجمع عظيم من علماء الأمة، وقرأ جمهور القراء «تمسوهن»، وقرأ حمزة والكسائي وطلحة وابن وثاب «تماسوهن» والمعنى فيهما الجماع وهذه العدة إنما هي لاستبراء الرحم وحفظ النسب في الحمل، فمن لم تمس فلا يلزم ذلك فيها، وقرأ جمهور الناس «تعتدّونها» بشد الدال على وزن تفتعلونها من العدد، وروى ابن أبي بزة عن أبي بكر «تعتدُونها» بتخفيف ضمة الدال من العدوان، كأنه قال فما لكم عدة تلزمونها عدواناً وظلماً لهن، والقراءة الأولى أشهر عن أبي بكر، وتخفيف الدال وهم من ابن أبي بزة، ثم أمر تعالى بتمتيع المطلقة قبل البناء، واختلف الناس في المتعة، فقال فرقة هي واجبة، وقالت فرقة هي مندوب إليها منهم مالك وأصحابه، وقالت فرقة المتعة للتي لم يفرض لها ونصف المهر للتي فرض لها، وقال سعيد بن المسيب‏:‏ بل المتعة كانت لجميعهن بهذه الآية، ثم نسخت آية البقرة بالنصف لمن فرض لها ما تضمنته هذه الآية من المتعة‏.‏

وهذه الآية خصصت آيتين إحداهما، والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، فخصصت هذه الآية من لم يدخل بها، وكذلك خصصت من ذوات الثلاثة الأشهر، وهن من قعدن عن المحيض، ومن لم يحضن من صغر المطلقات قبل البناء، و«السراح الجميل» هو الطلاق تتبعه عشرة حسنة وكلمة طيبة دون مشادة ولا أذى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

قرأ الجمهور «اللاتي» بالتاء من فوق، وقرأ الأعمش «اللايي» بياءين من تحت، وذهب ابن زيد والضحاك في تفسير قوله ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن‏}‏ إلى أن المعنى أن لله تعالى أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها وأباح له تعالى كل النساء بهذا الوجه وأباح له ملك اليمين وبنات العم والعمة والخال والخالة ممن هاجر معه، وخصص هؤلاء بالذكر تشريفاً وتنبيهاً منهن إذ قد تناولهن على تأويل ابن زيد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أزواجك التي آتيت أجورهن‏}‏، وأباح له الواهبات خاصة له فهو على تأويل ابن زيد إباحة مطلقة في جميع النساء حاشى ذوات المحارم، لا سيما على ما ذكر الضحاك أن في مصحف ابن مسعود «وبنات خالاتك واللاتي هاجرن معك»، ثم قال بعد هذه ‏{‏ترجي من تشاء منهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 51‏]‏ أي من هذه الأصناف كلها، ثم تجري الضمائر بعد ذلك على العموم إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا أن تبدل بهن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏ فيجيء هذا الضمير مقطوعاً من الأول عائداً على أزواجه التسع فقط على الخلاف في ذلك، وتأول غير ابن زيد قوله ‏{‏أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن‏}‏ أن الإشارة إلى عائشة وحفصة ومن في عصمته ممن تزوجها بمهر، وأن ملك اليمين بعد حلال له، وأن الله تعالى أباح له مع المذكورات بنات عمه وعماته وخاله وخالاته ممن هاجر معه والواهبات خاصة له، فيجيء الأمر على هذا التأويل أضيق على النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أي الناس شاء وكان ذلك يشق على نسائه، فلما نزلت هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا من سمى سر نساؤه بذلك‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ لأن ملك اليمين إنما يفعله في النادر من الأمر وبنات العم والعمات والخال والخالات يسير، ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور عند نسائه، لا سيما وقد قيد ذلك شرط الهجرة معه والواهبة أيضاً من النساء قليل، فلذلك سر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بانحصار الأمر، ثم يجيء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ترجي من تشاء منهن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 51‏]‏ إشارة إلى من تقدم ذكره، ثم يجيء قوله ‏{‏ولا أن تبدل بهن من أزواج‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏ إشارة إلى أزواجه اللاتي تقدم النص عليهن بالتحليل فيأتي الكلام متسقاً مطرداً أكثر من اطراده على التأويل الأول، و«الأجور» المهور، وقوله ‏{‏مما أفاء الله عليك‏}‏ أي رده إليك في الغنائم، يريد وعلى أمتك لأنه فيء عليه، و«ملك اليمين» أصله الفيء من الغنائم أو ما تناسل من سبي والشراء من الحربيين كالسباء، ومباح السباءة هو من الحربيين، ولا يجوز سبي من له عهد ولا تملكه، ويسمى سبي الخبثة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبنات عمك‏}‏ الآية، يريد قرابته، وروي عن أم هاني بنت أبي طالب أنها قالت‏:‏ خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثم نزلت هذه الآية، فحرمني عليه لأني لم أهاجر معه وإنما كنت من الطلقاء، وقرأ جمهور الناس «إن وهبت» بكسر الألف هذا يقتضي استئناف الأمور، إن وقع فهو حلال له، على أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال لم تكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين‏.‏

فأما بالهبة فلم يكن عنده منهن أحد، وقرأ الحسن البصري وأبيّ بن كعب والثقفي والشعبي، «أن وهبت» بفتح الألف فهي إشارة إلى ما وقع من الهبات قبل نزول الآيات‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وكسر الألف يجري مع تأويل ابن زيد الذي قدمناه، وفتح الألف يجري مع التأويل الآخر، ومن قرأ بفتح الألف قال الإشارة إلى من وهب نفسه من النساء للنبي صلى الله عليه وسلم على الجملة، قال ابن عباس فيما حكى الطبري هي ميمونة بنت الحارث، وقال علي بن الحسين هي أم شريك، وقال عروة والشعبي هي زينب بنت خزيمة أم المساكين، وقال أيضاً عروة بن الزبير خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمي ممن وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وامرأة مؤمنة وهبت» دون «إن»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خالصة لك‏}‏ أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لرجل، وأجمع الناس على أن ذلك لا يجوز، وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح إلا ما روي عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف أنهم قالوا‏:‏ إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة، وإلا فالأفعال التي اشترطها هي أفعال النكاح بعينه‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ ويظهر من لفظ أبيّ بن كعب أن معنى قوله ‏{‏خالصة لك‏}‏ يراد به جميع هذه الإباحة لأن المؤمنين قصروا على مثنى وثلاث ورباع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم‏}‏ يريد الولي والشاهدين والمهر والاقتصار على أربع قاله قتادة ومجاهد، وقال أبيّ بن كعب هو مثنى وثلاث ورباع، وقوله تعالى ‏{‏لكي لا‏}‏ أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح ‏{‏لكي لا يكون عليك حرج‏}‏ ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك في شيء، ثم أنس تعالى الجميع من المؤمنين بغفرانه ورحمته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏ترجى‏}‏ معناه تؤخر وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «ترجيء» بالهمز، وقرأ عاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي «ترجي» بغير همز وهما لغتان بمعنى، ‏{‏وتؤوي‏}‏ معناه تضم وتقرب وقال المبرد هو معدى رجى يرجو تقول رجى الرجل وأرجيته جعلته ذا رجاء، ومعنى هذه الآية أن الله فسح لنبيه فيما يفعله في جهة النساء، والضمير في ‏{‏منهن‏}‏ عائد على من تقدم ذكره من الأصناف حسب الخلاف المذكور في ذلك، وهذا الإرجاء والإيواء يحتمل معاني، منها أن معناه في القسم أن تقرب من شئت في القسمة لها من نفسك، وتؤخر عنك من شئت، وتكثر لمن شئت، وتقل من شئت، لا حرج عليك في ذلك، فإذا علمن هن أن هذا هو حكم الله تعالى لك وقضاؤه زالت الأنفة والتغاير عنهن ورضين وقرت أعينهن وهذا تأويل مجاهد وقتادة والضحاك‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ لأن سبب هذه الآيات إنما كان تغايراً وقع بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم عليه فشقي بذلك، ففسح الله له وأنبهن بهذه الآيات، وقال أبو رزين وابن عباس المعنى في طلاق من شاء ممن حصل في عصمته وإمساك من شاء، قال أبو زيد‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هم بطلاق بعض نسائه فقلن له أقسم لنا ما شئت فكان ممن أرجى سودة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة وآوى إليه عائشة وأم سلمة وحفصة وزينب وقال الحسن بن أبي الحسن المعنى في تزويج من شاء من النساء وترك من شاء، وقالت فرقة المعنى في ضم من شاء من الواهبات وتأخير من شاء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى كل معنى فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإباحة له، قالت عائشة‏:‏ لما قرأ عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وذهبت هبة الله في الناسخ والمنسوخ له إلى أن قوله ‏{‏ترجي من تشاء‏}‏ الآية ناسخ لقوله ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ الآية، وقال ليس في كتاب الله تعالى ناسخ تقدم المنسوخ إلا هذا‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وكلامه يضعف من جهات، وقوله عز وجل ‏{‏ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك‏}‏ يحتمل معاني‏:‏ أحدها أن تكون ‏{‏من‏}‏ للتبعيض، أي من إرادته وطلبته نفسه ممن قد كنت عزلته فلا جناح عليك في رده إلى نفسك وإيوائه إليه بعد عزلته، ووجه ثان وهو أن يكون مقوياً ومؤكداً لقوله ‏{‏ترجى من تشاء وتؤوي من تشاء‏}‏ فيقول بعد ‏{‏ومن ابتغيت ممن عزلت‏}‏ فذلك سواء ‏{‏فلا جناح عليك‏}‏ في جمعه، وهذا كما تقول من لقيك ممن لم يلقك جميعهم لك شاكر وأنت تريد من لقيك ومن لم يلقك، وهذا المعنى يصح أن يكون في معنى القسم، ويصح أن يكون في الطلاق والإمساك وفي الواهبات، وبكل واحد قالت فرقة‏:‏ وقرأ جمهور الناس «ذلك أدنى أن تقر أعينُهن» برفع «الأعين»، وقرأ ابن محيصن «أن تُقر أعينَهن» بضم التاء ونصب «الأعين»، وقوله ‏{‏بما آتيتهن‏}‏ أي من نفسك ومالك، وقرأ جمهور الناس «كلُّهن» بالرفع على التأكيد للضمير في ‏{‏يرضين‏}‏ ولم يجوز الطبري غير هذا، وقرأ جويرية بن عابد بالنصب على التأكيد في ‏{‏آتيتهن‏}‏‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ والمعنى أنهن يسلمن لله ولحكمه وكن قبل لا يتسامحن بينهن للغيرة ولا يسلمن للنبي صلى الله عليه وسلم أنفة، نحا إلى هذا المعنى ابن زيد وقتادة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يعلم ما في قلوبكم‏}‏ خبر عام، والإشارة به هنا إلى ما كان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص، وكذلك يدخل في المعنى أيضاً المؤمنون‏.‏ وقوله ‏{‏حليماً‏}‏ صفة تقتضي صفحاً وتأنيساً في هذا المعنى، إذ هي خواطر وفكر لا يملكها الإنسان في الأغلب، واتفقت الروايات على أنه عليه السلام عدل بينهن في القسمة حتى مات ولم يمتثل ما أبيح له ضبطاً لنفسه وأخذاً بالفضل، غير أن سودة وهبت نوبتها لعائشة تقمناً لمسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ قيل كما قدمنا إنها خطرت عليه النساء إلا التسع اللواتي كنَّ عنده، فكأن الآية ليست متصلة بما قبلها، قال ابن عباس وقتادة لما هجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً، وآلى منهن ثم خرج وخيرهن فاخترن الله ورسوله، جازاهن الله بأن حظر عليه النساء غيرهن وقنعه بهن وحظر عليه تبديلهن، ونسخ بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء، وقال أبيّ بن كعب وعكرمة قوله ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ أي من بعد الأصناف التي سميت، ومن قال إن الإباحة كانت له مطلقة قال هنا ‏{‏لا يحل لك النساء‏}‏ معناه لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وهذا تأويل فيه بعد، وإن كان روي عن مجاهد، وكذلك روي أن تبدل اليهوديات والنصرانيات بالمسلمات، وهذا قول أبي رزين وسعيد بن جبير، وقال أبيّ بن كعب ‏{‏من بعد‏}‏ يعني لا يحل لك العمات والخالات ونحو ذلك، وأمر مع ذلك بأن لا يتبدل بأزواجه التسع منه من أن يطلق منهن ويتزوج غيرهن قاله الضحاك، وقيل بمن تزوج وحصل في عصمته أي لا يبدلها بأن يأخذ زوجة إنسان ويعطيه هو زوجته قال ابن زيد وهذا شيء كانت العرب تفعله‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وهذا قول ضعيف أنكره الطبري وغيره في معنى الآية، وما فعلت العرب قط هذا، وما روي من حديث عيينة بن حصن أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فقال من هذه الحميراء‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذه عائشة، فقال عيينة‏:‏ يا رسول الله إن شئت نزلت لك عن سيدة العرب جمالاً ونسباً فليس بتبديل ولا أراد ذلك وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية فقال هذا القول، وقرأ أبو عمرو بخلاف «لا تحل» بالتاء على معنى جماعة النساء، وقرأ الباقون «لا يحل» بالياء من تحت على معنى جميع النساء وهما حسنان لأن تأنيث لفظ النساء ليس بحقيقي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أعجبك حسنهن‏}‏، قال ابن عباس نزل ذلك بسبب أسماء بنت عميس أعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات عنها جعفر بن أبي طالب وفي هذه اللفظة ‏{‏أعجبك حسنهن‏}‏ دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها، وقد أراد المغيرة بن شعبة زواج امرأة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما» وقال عليه السلام لآخر‏:‏ «انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً»، قال الحميدي يعني «صغراً»، وقال سهل بن أبي حثمة رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحاك على أجار من أجاجير المدينة فقلت له أتفعل هذا‏؟‏ فقال نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا ما ملكت يمينك‏}‏ ‏{‏ما‏}‏ في موضع رفع بدل من ‏{‏النساء‏}‏، ويجوز أن تكون في موضع نصب على الاستثناء، وفي النصب ضعف، ويجوز أن تكون ‏{‏ما‏}‏ مصدرية والتقدير إلا ملك يمينك وملك بمعنى مملوك، وهو في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول، و«الرقيب» فعيل بمعنى فاعل أي راقب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

هذه الآية تضمنت قصتين إحداهما الأدب في أمر الطعام والجلوس الثانية في أمر الحجاب، فأما الأولى فالجمهور من المفسرين على أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش أولم عليها فدعا الناس، فلما طعموا، قعد نفر في طائفة من البيت فثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم فخرج ليخرجوا لخروجه، ومر على حجر نسائه ثم عاد فوجدهم في مكانهم وزينب في البيت معهم، فلما دخل وراءهم انصرف فخرجوا عند ذلك، قال أنس بن مالك‏:‏ فأعلم أو أعلمته بانصرافهم فجاء، فلما وصل الحجرة أرخى الستر بيني وبينه ودخل، ونزلت الآية بسبب ذلك، وقال قتادة ومقاتل وفي كتاب الثعلبي‏:‏ إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة والأول أشهر، وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في ناس في المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون، وقال إسماعيل بن أبي حكيم‏:‏ هذا أدب أدّب الله تعالى به الثقلاء، وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي‏:‏ بحسبك من الثقلاء إن الشرع لم يحتملهم، وأما آية الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة سببها أمر العقود في بيت زينب، القصة المذكورة آنفاً، وقالت فرقة بل في بيت أم سلمة، وقال مجاهد سبب آية الحجاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل معه قوم وعائشة معهم فمست يدها يد رجل منهم فنزلت آية الحجاب بسبب ذلك، وقالت عائشة وجماعة سبب الحجاب كلام عمر وأنه كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مراراً في أن يحجب نساءه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعل وكان عمر يتابع فخرجت سودة ليلة لحاجتها وكانت امرأة تفرع النساء طولاً فناداها عمر قد عرفناك يا سودة حرصاً على الحجاب‏.‏

وقالت له زينب بنت جحش‏:‏ عجبنا لك يا ابن الخطاب تغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فما زال عمر يتابع حتى نزلت آية الحجاب، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وافقت ربي في ثلاث‏:‏ منها الحجاب، ومقام إبراهيم، وعسى ربه إن طلقكن الحديث، وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى دار الدعوة ينتظر طبخ الطعام ونضجه في حديث أنس، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا، كذلك فنهى الله تعالى المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام، و‏{‏ناظرين‏}‏ معناه منتظرين و‏{‏إناه‏}‏ مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان آناً، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

تمخضت المنون له بيوم *** أنى ولكل خاتمة تمام

وقرأ الجمهور بفتح النون من «إناه» وأمالها حمزة والكسائي، ثم أكد المنع وحصر وقت الدخول بأن يكون عن الإذن، ثم أمر تعالى بعد الطعام بأن يفترق جمعهم وينتشر، وقوله ‏{‏ولا مستأنسين‏}‏ عطف على قوله ‏{‏غير ناظرين‏}‏ و‏{‏غير‏}‏ منصوبة على الحال من الكاف والميم في ‏{‏لكم‏}‏ أي ناظرين ولا مستأنسين، وقرأ ابن أبي عبلة «غير» بكسر الراء وجوازه على تقدير «غير ناظرين إناة أنتم»، وقرأ الأعمش «آناءة» على جمع «أنى» بمدة بعد النون، وقرأت فرقة «فيستحيي» بإظهار الياء المكسورة قبل الساكنة، وقرأت فرقة «فيستحيي» بسكون الياء دون ياء مكسورة قبلها، وقوله ‏{‏والله لا يستحيي‏}‏ معناه لا يقع منه ترك قوله ‏{‏الحق‏}‏ ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفي عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سألتموهن متاعاً‏}‏ الآية هي آية الحجاب، و«المتاع» عام في جميع ما يمكن أن يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا، وقوله ‏{‏ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن‏}‏ يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النّساء وللنساء في أمر الرجال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله‏}‏ الآية روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال‏:‏ لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذى به، هكذا كنى عنه ابن عباس ببعض الصحابة، وحكى مكي عن معمر أنه قال هو طلحة بن عبيد الله‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ لله در ابن عباس، وهذا عندي لا يصح على طلحة، الله عاصمه منه، وروي أن رجلاً من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خُنَيْس بن حذافة ما بال محمد يتزوج نساءنا والله لو مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت الآية في هذا، وحرم الله تعالى نكاح أزواجه بعده وجعل لهن حكم الأمهات، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب ثم رجعت زوج عكرمة بن أبي جهل قتيلة بنت الأشعث بن قيس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوجها ولم يبن بها فصعب ذلك على أبي بكر الصديق وقلق منه فقال له عمر‏:‏ مهلاً يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنه لم يخيرها ولا أرخى عليها حجاباً وقد أبانتها منه ردتها مع قومها، فسكن أبو بكر، وذهب عمر إلى أن لا يشهد جنازة زينب بنت جحش إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر، وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 55‏]‏

‏{‏إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏54‏)‏ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً‏}‏ توبيخ ووعيد لمن تقدم به التعريض في الآية قبلها ممن أشير إليه بقوله ‏{‏ذلكم أطهر لقلوبكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏ ومن أشير إليه في قوله ‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏ فقيل لهم في هذه إن الله يعلم ما تخفونه من هذه المعتقدات والخواطر المكروهة ويجازيكم عليها، ثم ذكر تعالى الإباحة فيمن سمي من القرابة إذ لا تقضي أحوال البشر إلا مداخلة من ذكر وكثرة ترداده وسلامة نفسه من أمر الغزل لما تتحاماه النفوس من ذوات المحارم، فمن ذلك الآباء والأولاد والإخوة وأبناؤهم وأبناء الأخوات، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا نسائهن‏}‏ دخل فيه الأخوات والأمهات وسائر القرابات ومن يتصل من المتصرفات لهن، هذا قول جماعة من أهل العلم، ويؤيد قولهم هذه الإضافة المخصصة في قوله ‏{‏نسائهن‏}‏ وقال ابن زيد وغيره إنما أراد جميع النساء المؤمنات وتخصيص الإضافة إنما هو في الإيمان، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا ما ملكت أيمانهن‏}‏ قالت طائفة من الإماء دون العبيد، وقالت طائفة من العبيد والإماء، ثم اختلفت هذه الطائفة، فقالت فرقة‏:‏ ما ملكت من العبيد دون من ملك سواهن، وقالت فرقة‏:‏ بل من جميع العبيد كان في ملكهن أو في ملك غيرهن، والكاتب إذا كان معه ما يؤدي فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب الحجاب دونه، وفعلت ذلك أم سلمة مع مكاتبها نبهان، ذكره الزهراوي، وقالت فرقة دخل الأعمام في الآباء، وقال الشعبي وعكرمة لم يذكرهم لإمكان أن يصفوا لأبنائهم، وكذلك الخال وكرها أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها، واختلف المتأولون في المعنى الذي رفع فيه الجناح بهذه الآية فقال قتادة هو الحجاب، أي أبيح لهذه الأصناف الدخول على النساء دون حجاب ورؤيتهن، وقال مجاهد ذلك في رفع الجلباب وإبداء الزينة، ولما ذكر تعالى الرخصة في هذه الأصناف وانجزمت الإباحة عطف بأمرهن بالتقوى عطف جملة على جملة وهذا في نهاية البلاغة والإيجاز، كأنه قال اقتصرن على هذا ‏{‏واتقين الله‏}‏ تعالى فيه أن تتعدينه إلى غيره، ثم توعد تعالى قوله ‏{‏واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيداً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 58‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏56‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

هذه الآية شرف الله بها رسوله عليه السلام وذكر منزلته منه وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء في أمر أزواجه ونحو ذلك، وقوله ‏{‏يصلون‏}‏، قالت فرقة الضمير فيه لله وللملائكة، وهذا قول من الله تعالى شرف به ملائكته فلا يصحبه الاعتراض الذي جاء في قول الخطيب عند النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أطاع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد ضل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «بئس الخطيب أنت» قالوا لأنه ليس لأحد من البشر أن يجمع ذكر الله تعالى مع غيره في ضمير واحد ولله تعالى أن يفعل من ذلك ما شاء، وقالت فرقة‏:‏ في الكلام حذف تقديره إن الله يصلي على النبي وملائكته يصلون، ودل الظاهر من القول على ما ترك، وليس في الآية اجتماع في ضمير، وقالت فرقة‏:‏ بل جمع الله تعالى الملائكة مع نفسه في ضمير وذلك جائز للبشر فعله، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم «بئس الخطيب أنت» لهذا المعنى وإنما قاله لأن الخطيب وقف على «ومن يعصهما» وسكت سكتة، ومما يؤيد هذا أن في كلام النبي صلى الله عليه وسلم في مصنف أبي داود «ومن يعصهما» فجمع ذكر الله تعالى مع رسوله في ضمير، ومما يؤيد القول الأول أن في كتاب مسلم «بئس الخطيب أنت قل ومن يعص الله ورسوله»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يحتمل أن يكون لما خطأه في وقفه وقال له «بئس الخطيب أنت» ‏(‏أصلح له بعد ذلك جميع كلامه لأن فصل ضمير اسم الله تعالى من ضمير غيره أولى لا محالة فقال له‏:‏ «بئس الخطيب أنت» لموضع‏)‏ خطأه في الوقف وحمله على الأولى في فصل الضميرين‏.‏ وإن كان جمعهما جائزاً جائزاً، وقرأ الجمهور «وملائكتَه» بنصب التاء عطفاً على المكتوبة، وقرأ ابن عباس «وملائكتُه» رفعا عطفاً على الموضع قبل دخول ‏{‏إن‏}‏ وفي هذا نظر، وصلاة الله رحمة منه وبركة، وصلاة الملائكة دعاء، وصلاة المؤمنين دعاء وتعظيم، والصلاة على رسول الله في كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها إلا من لا خير فيه، وقال عليه السلام‏:‏ «أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود» وصفتها ما ورد عنه عليه السلام في كتاب الطبري من طريق ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية قال له قوم من الصحابة‏:‏ هذا السلام عليك يا رسول الله قد عرفناه فكيف نصلي عليك‏؟‏ قال‏:‏

«قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى وآل إبراهيم وارحم محمداً وآل محمد كما رحمت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد» وفي بعض الروايات زيادة ونقص هذا معناه، وقرأ الحسن «يا أيها الذين آمنوا فصلوا عليه» وهذه الفاء تقوي معنى الشرط أي صلى الله فصلوا أنتم، كما تقول أعطيتك فخذ، وفي حرف عبد الله «صلوا عليه كما صلى الله عليه وسلم وا تسليماً»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يؤذون الله‏}‏ الآية، قال الجمهور معناه بالكفر ونسبه الصاحبة والولد والشريك إليه ووصفه بما لا يليق به، وفي الحديث قال الله شتمني عبدي فقال إن لي ولداً وكذبني فقال إنه لن يبعث، وقال عكرمة معناه بالتصوير والتعريض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وخلقها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لعن الله المصورين»، وقالت فرقة ذلك على حذف مضاف تقديره يؤذون أولياء الله، وإذاية الرسول هي بما يؤذيه من الأقوال في غير معنى واحد من الأفعال أيضاً، قال ابن عباس نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت حيي‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ والطعن في تأمير أسامة إذاية له عليه السلام، ولعنوا معناه أبعدوا من كل خير، وإذاية المؤمنين والمؤمنات هي أيضاً بالأفعال والأقوال القبيحة والبهتان والكذب الفاحش المختلف، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يوماً لأبيّ بن كعب‏:‏ إني قرأت هذه الآية البارحة ففزعت منها ‏{‏والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات‏}‏ الآية والله إني لأضربهم وأنهرهم، فقال له‏:‏ اي يا أمير المؤمنين لست منهم إنما أنت معلم ومقوم، وذكر أبو حاتم أن عمر بن الخطاب قرأ «إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات» ثم قال يا أبي كيف تقرأ هذه الآية فقرأها كما قال عمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

لما كانت عادة العربيات التبذل في معنى الحجبة وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكر فيهن أمر الله تعالى رسوله عليه السلام بأمرهن بإدناء الجلابيب، ليقع سترهن ويبين الفرق بين الحرائر والإماء، فيعرف الحرائر بسترهن فكيف عن معارضتهن من كان غزلاً أو شاباً وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن، فنزلت الآية بسبب ذلك، و«الجلباب» ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء واختلف الناس في صورة إدنائه، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وعبيدة السلماني ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى أن يعرفن‏}‏ أي على الجملة بالفرق حتى لا يختلطن بالإماء، فإذا عرفن لم يقابلن بأذى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية، وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى يعلم من هي، وكان عمر إذا رأى أمة قد تقنعت قنعها الذرة محافظة على زي الحرائر، وباقي الآية ترجية ولطف وحظ على التوبة وتطميع في رحمة الله تعالى، وفيها تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 62‏]‏

‏{‏لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏60‏)‏ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ‏(‏61‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

اللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئن‏}‏ هي المؤذنة بمجيء القسم، واللام في ‏{‏لنغرينك‏}‏ هي لام القسم، وتوعد الله تعالى هذه الأصناف في هذه الآية، وقرن توعده بقرينة متابعتهم وتركهم الانتهاء، فقالت فرقة‏:‏ إن هذه الأصناف لم تنته ولم ينفذ الله تعالى عليها هذا الوعيد، فهذه الآية دليل على بطلان القول بإنفاذ الوعيد في الآخرة، وقالت فرقة‏:‏ إن هذه الأصناف انتهت وتستر جميعهم بأمرهم وكفوا وما بقي من أمرهم أنفذ الله تعالى وعيداً بإزائه، وهو مثل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم إلى غير ذلك مما أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنافقين من الإذلال في إخراجهم من المسجد وما نزل فيهم في سورة براءة وغير ذلك، فهم لا يمتثلوا الانتهاء جملة ولا نفذ عليهم الوعيد كاملاً‏.‏ و‏{‏المنافقون‏}‏ صنف يظهر الإيمان ولا يبطنه، ‏{‏والذين في قلوبهم مرض‏}‏ هو الغزل وحب الزنا قاله عكرمة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيطمع الذي في قلبه مرض‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 32‏]‏ و‏{‏المرجفون في المدينة‏}‏ هم قوم من المنافقين كانوا يتحدثون بغزو العرب المدينة وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيغلب، ونحو هذا مما يرجفون به نفوس المؤمنين، فيحتمل أن تكون هذه الأصناف مفترقة بعضها من بعض، ويحتمل أن تكون داخلة في جملة المنافقين، لكنه نص على هاتين الطائفتين وهو قد ضمهم عموم لفظة النفاق تنبيهاً عليهم وتشريداً بهم وغضاً منه، و«نغرينك» معناه نحضك عليهم بعد تعيينهم لك، قال ابن عباس المعنى لنسلطنك عليهم، وقال قتادة لنحرشنك بهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لا يجاورونك فيها‏}‏ أي بعد الإغراء لأنك تنفيهم بالإخافة والقتل، وقوله ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ يحتمل أن يريد إلا جواراً قليلاً أو وقتاً قليلاً، ويحتمل أن يريد إلا عدداً قليلاً، كأنه قال إلا أقلاء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ملعونين‏}‏ يجوز أن ينتصب على الذم قاله الطبري، ويجوز أن يكون بدلاً من أقلاء الذي قدرناه قبل في أحد التأويلات، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في ‏{‏يجاورونك‏}‏ كأنه قال ينتفون ملعونين، فلما تقدر ‏{‏لا يجاورونك‏}‏ تقدير ينتفون، حسن هذا، واللعنة الإبعاد، و‏{‏ثقفوا‏}‏ معناه حصروا وقدر عليهم، و‏{‏أخذوا‏}‏ معناه أسروا، والأخيذ الأسير ومنه قول العرب أكذب من الأخيذ الصيحان، وقرأ جمهور الناس «وقتّلوا» بشد التاء، ويؤيد هذا المصدر بعدها، وقرأت فرقة بتخفيف التاء والمصدر على هذه القراءة على غير قياس، قال الأعمش كل ما في القرآن غير هذا الموضع فهو «قتلوا» بالتخفيف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنة الله‏}‏ نصب على المصدر، ويجوز فيه الإغراء على بعد، و‏{‏الذين خلوا‏}‏ هم منافقو الأمم وقوله ‏{‏ولن تجد لسنة الله تبديلاً‏}‏ أي من مغالب يستقر تبديله فيخرج على هذا تبديل العصاة والكفرة، ويخرج عنه أيضاً ما يبدله الله من سنة بسنّة بالنسخ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 68‏]‏

‏{‏يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ‏(‏64‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏65‏)‏ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ‏(‏66‏)‏ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ‏(‏67‏)‏ رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ‏(‏68‏)‏‏}‏

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة متى هي فلم يجب في ذلك بشيء، ونزلت الآية آمرة بأن يرد العلم فيها إلى الله تعالى إذ هي من مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها، ثم توعد العالم بقربها في قوله ‏{‏وما يدريك‏}‏ الآية، أي فينبغي أن تحذر، و‏{‏قريباً‏}‏ ظرف لفظه واحد جمعاً، وإفراداً، ومذكراً ومؤنثاً، ولو كان صفة للساعة لكان قريبة، ثم توعد تعالى ‏{‏الكافرين‏}‏ بعذاب لا ولي لهم منه ولا ناصر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم‏}‏ يجوز أن يكون متعلقاً بما قبله والعامل ‏{‏يجدون‏}‏، وهذا تقدير الطبري، ويجوز أن يكون العامل فيه ‏{‏يقولون‏}‏ ويكون ظرفاً للقول‏.‏

وقرأ الجمهور «تُقلَّب وجوههم» على المفعول الذي لم يسم فاعله بضم التاء وشد اللام المفتوحة، وقرأ أبو حيوة «تَقلب» بفتح التاء بمعنى تتقلب، وقرأ ابن أبي عبلة «تتقلب» بتاءين، وقرأ خارجة وأبو حيوة «نقلب» بالنون، وقرأ عيسى بن عمر الكوفي «تُقلِب» بكسر اللام وضم التاء أي تقلب السعير‏.‏ وبنصب الوجوه في هاتين القراءتين، فيتمنون يومئذ الإيمان وطاعة الله ورسوله حين لا ينفعهم التمني، ثم لاذوا بالتشكي من كبرائهم في أنهم أضلوهم، وقرأ جمهور الناس «سادتنا» وهو جمع سيد، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن عامر وحده من السبعة وأبو عبد الرحمن وقتادة وأبو رجاء والعامة في المسجد الجامع بالبصرة «ساداتنا» على جمع الجمع، و‏{‏السبيلا‏}‏ مفعول ثان لأن «أضل» معدى بالهمزة، وضل يتعدى إلى مفعول واحد فيما هو مقيم كالطريق والمسجد وهي سبيل الإيمان والهدى، ثم دعوا بأن يضاعف العذاب للكبراء المضلين أي عن أنفسهم وعمن أضلوا، وقرأ عاصم وابن عامر وحذيفة بن اليمان والأعرج بخلاف عنه «لعناً كبيراً بالباء من الكبر، وقرأ الجمهور والباقون» لعناً كثيراً «بالثاء ذات الثلاث والكثرة أشبه بمعنى اللعنة من الكبر أي العنهم مرات كثيرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 71‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ‏(‏69‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏70‏)‏ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏الذين آذوا موسى‏}‏ هم قوم من بني إسرائيل، واختلف الناس في الإذاية التي كانت وبرأه الله منها، فقالت فرقة هي قصة قارون، وإدخاله المرأة البغي في أن تدعي على موسى ثم تبرئتها له وإشهارها بداخلة قارون، وقد تقدمت القصة في ذكر قارون، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي أن موسى وهارون خرجا من فحص التيه إلى جبل مات هارون فيه، فجاء موسى وحده، فقال قوم هو قتله، فبعث الله تعالى ملائكة حملوا هارون حتى طافوا به في أسباط بني إسرائيل ورأوا آية عظيمة دلتهم على صدق موسى ولم يكن فيه أثر، وروي أنه حيي فأخبرهم بأمره وببراءة موسى، وقال ابن عباس وأبو هريرة وجماعة هي ما تضمنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكان موسى عليه السلام يتستر كثيراً ويخفي بدنه فقال قوم هود آدر أو أبرص أو به آفة فاغتسل موسى يوماً وجعل ثيابه على حجر ففر الحجر بثيابه واتبعه موسى يقول ثوبي حجر ثوبي حجر، فمر في أتباعه على ملأ من بني إسرائيل، فرواه سليمان مما ظن به، الحديث بطوله خرجه البخاري ‏{‏فبرأه الله مما قالوا‏}‏ و«الوجيه» المكرم الوجه، وقرأ الجمهور «وكان عند الله»، وقرأ ابن مسعود «وكان عبد الله»، ثم وصى عز وجل المؤمنين بالقول السداد، وذلك يعم جميع الخيرات، وقال عكرمة‏:‏ أراد لا إله إلاَّ الله، و«السداد» يعم جميع هذا وإن كان ظاهر الآية يعطي أنه إنما أشار إلى ما يكون خلافاً للأذى الذي قيل في جهة الرسول وجهة المؤمنين، ثم وعد تعالى بأنه يجازي على القول السديد بإصلاح الأعمال وغفران الذنوب، وباقي الآية بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ‏(‏72‏)‏ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

اختلف الناس في ‏{‏الأمانة‏}‏ فقال ابن مسعود هي أمانات المال كالودائع ونحوها، وروي عنه أنه في كل الفرائض وأشدها أمانة المال، وذهبت فرقة، هي الجمهور، إلى أنه كل شيء يؤتمن الإنسان عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا، فالشرع كله أمانة، قال أبيّ بن كعب من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها، وقال أبو الدرداء غسل الجنابة أمانة، ومعنى الآية ‏{‏إنا عرضنا‏}‏ على هذه المخلوقات العظام أن تحمل الأوامر والنواهي وتقتضي الثواب إن أحسنت والعقاب إن أساءت فأبت هذه المخلوقات وأشفقت، ويحتمل أن يكون هذا بإدراك يخلقه الله لها، ويحتمل أن يكون هذا العرض على من فيها من الملائكة، ويروى أنها قالت «رب ذرني مسخرة لما شئت أتيت طائعة فيه ولا تكلني إلى نظري وعملي ولا أريد ثواباً»، وحمل الإنسان الأمانة أي التزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول بقدر ما دخل فيه، وهذا هو تأويل ابن عباس وابن جبير، وقال الحسن ‏{‏حملها‏}‏ معناه خان فيها والآية في الكافر والمنافق‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ والعصاة على قدرهم، وقال ابن عباس والضحاك وغيره ‏{‏الإنسان‏}‏ آدم تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة، وروي أن الله تعالى قال له‏:‏ «يا آدم إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها فتحملها أنت بما فيها‏.‏ قال‏:‏ وما فيها‏؟‏ قال‏:‏ إن أحسنت أجرت وإن أسأت عوقبت»، قال نعم قد حملتها، قال ابن عباس فما بقي له قدر ما بين الأولى إلى العصر حتى عصى ربه، وقال ابن عباس وابن مسعود ‏{‏الإنسان‏}‏ ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه وكان قد تحمل الأمانة لأبيه أن يحفظ الأهل بعده، وكان آدم سافر إلى مكة في حديث طويل ذكره الطبري وغيره، وقال بعضهم ‏{‏الإنسان‏}‏ النوع كله وهذا حسن مع عموم الأمانة، وقال الزجاج معنى الآية ‏{‏إنا عرضنا الأمانة‏}‏ في نواهينا وأوامرنا على هذه المخلوقات فقمن بأمرنا وأطعن فيما كلفناها وتأبين من حمل المذمة في معصيتنا، وحمل الإنسان المذمة فيما كلفناه من أوامرنا وشرعنا‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ و‏{‏الإنسان‏}‏ على تأويله الكافر والعاصي، وتستقيم هذه الآية مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتينا طائعين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ فعلى التأويل الأول الذي حكيناه عن الجمهور يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتينا طائعين‏}‏ ‏[‏فصت‏:‏ 11‏]‏ إجابة لأمر أمرت به، وتكون هذه الآية إباية وإشفاقاً من أمر عرض عليها وخيرت فيه، وروي أن الله تعالى عرض الأمانة على هذه المخلوقات فأبت، فلما عرضها الله تعالى على آدم قال‏:‏ أنا أحملها بين أذني وعاتقي، فقال الله تعالى له‏:‏ إني سأعينك قد جعلت لبصرك حجاباً فأغلقه عما لا يحل لك ولفرجك لباساً فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك‏.‏

قال الفقيه الإمام القاضي‏:‏ وفي هذا المعنى أشياء تركتها اختصاراً لعدم صحتها، وقال قوم‏:‏ إن الآية من المجاز، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال رأينا أنها لا تطيقها وأنها لو تكلمت لأبتها وأشفقت فعبر عن هذا المعنى بقوله ‏{‏إنا عرضنا‏}‏ الآية، وهذا كما تقول عرضت الحمل على البعير فأباه وأنت تريد بذلك قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه، وقوله ‏{‏ليعذب الله‏}‏ اللام لام العاقبة لأن الإنسان لم يحمل ليقع العذاب لكن حمل فصار الأمر وآل إلى أن يعذب من نافق ومن أشرك وأن يتوب على من آمن وقرأ الجمهور و«يتوب» بالنصب عطفاً على قوله ‏{‏ليعذب‏}‏ وقرأ الحسن بن أبي الحسن و«يتوبُ» بالرفع علىلقطع والاستئناف، وباقي الآية بين‏.‏

سورة سبأ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏1‏)‏ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

الألف واللام في ‏{‏الحمد‏}‏ لاستغراق الجنس، أي ‏{‏الحمد‏}‏ على تنوعه هو ‏{‏لله‏}‏ تعالى من جميع جهات الفكرة، ثم جاء بالصفات التي تستوجب المحامد وهي ملكه جميع ما في السماوات والأرض، وعلمه المحيط بكل شيء وخبرته بالأشياء إذ وجودها إنما هو به جلت قدرته ورحمته بأنواع خلقه وغفرانه لمن سبق في علمه أن يغفر له من مؤمن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وله الحمد في الآخرة‏}‏ يحتمل أن تكون الألف واللام للجنس أيضاً وتكون الآية خبراً، أي أن الحمد في الآخرة هو له وحده لإنعامه وإفضاله وتغمده وظهور قدرته وغير ذلك من صفاته، ويحتمل أن تكون الألف واللام فيه للعهد والإشارة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 10‏]‏ أو إلى قوله ‏{‏وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 74‏]‏ و‏{‏يلج‏}‏ معناه يدخل، ومنه قول شاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

رأيت القوافي يتلجن هوالجا *** تضايق عنها أن تولجها الابر

و ‏{‏يعرج‏}‏ معناه يصعد، وهذه الرتب حصرت كلما يصح علمه من شخص أو قول أو معنى، وقرأ أبو عبد الرحمن «وما يُنَزّل من السماء» بضم الياء وفتح النون وشد الزاي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏3‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

روي أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب، وقال اللات والعزى ما ثم ساعة تأتي ولا قيامة ولا حشر فأمر الله تعالى نبيه أن يقسم بربه مقابلة لقسم أبي سفيان قبل رداً وتكذيباً وإيجاباً لما نفاه وأجاز نافع الوقف على ‏{‏بلى‏}‏ وقرأ الجمهور «لتأتينكم» بالتاء من فوق، وحكى أبو حاتم قراءة «ليأتينكم» بالياء على المعنى في البعث‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بخلاف «عالمِ» بالخفض على البدل من ‏{‏ربي‏}‏، وقرأ نافع وابن عامر «عالمُ» بالرفع على القطع، أي هو عالم، ويصح أن يكون «عالم» رفع بالابتداء وخبره ‏{‏لا يعزب‏}‏ وما بعده، ويكون الإخبار بأن العالم لا يعزب عنه شيء إشارة إلى أنه قد قدر وقتها وعلمه والوجه الأول أقرب، وقرأ حمزة والكسائي «علامِ» على المبالغة وبالخفض على البدل و‏{‏يعزب‏}‏ معناه يغيب ويبعد، وبه فسر مجاهد وقتادة، وقرأ جمهور القراء «لا يعزُب» بضم الزاي، وقرأ الكسائي وابن وثاب «لا يعزب» بكسرها وهما لغتان، و‏{‏مثقال ذرة‏}‏ معناه مقدار الذرة، وهذا في الأجرام بين وفي المعاني بالمقايسة وقرأ الجمهور «ولا أصغرُ ولا أكبر» عطفاً على قوله ‏{‏مثقال‏}‏ وقرأ نافع والأعمش وقتادة «أصغرَ وأكبرَ» بالنصب عطفاً على ‏{‏ذرة‏}‏ ورويت عن أبي عمرو، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا في كتاب مبين‏}‏ ضمير تقديره إلا هو في كتاب مبين، والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ، واللام من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليجزي‏}‏ يصح أن تكون متعلّقة، بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتأتينكم‏}‏ ويصح أن تكون متعلقة بقوله ‏{‏لا يعزب‏}‏، ويصح أن تكون متعلقة بما في قوله ‏{‏إلا في كتاب مبين‏}‏ من معنى الفعل لأن المعنى إلا أثبته في كتاب مبين، و«المغفرة» تغمد الذنوب، و«الرزق الكريم» الجنة ‏{‏والذين‏}‏ معطوف على ‏{‏الذين‏}‏ الأول أي وليجزي الذي سعوا، و‏{‏معاجزين‏}‏ معناه محاولين تعجيز قدرة الله فيهم، وقرأ الجحدري وابن كثير «معجزين» دون ألفٍ أي معجزين قدرة الله تعالى بزعمهم، وقال ابن الزبير‏:‏ معناه مثبطين عن الإيمان من أراده مدخلين عليه العجز في نشاطه وهذا هو سعيهم في الآيات، ثم بين تعالى جزاء الساعين كما بين قبل جزاء المؤمنين، وقرأ عاصم في رواية حفص «أليمٌ» بالرفع على النعت للعذاب، وقرأ الباقون «أليمٍ» بالكسر على النعت، ل ‏{‏رجز‏}‏، و«الرجز» العذاب السيئ جداً، وقرأ ابن محيصن «من رُجز» بضم الراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏6‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏7‏)‏ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قال الطبري والثعلبي وغيرهما ‏{‏ويرى‏}‏ معطوف على ما قبله من الأفعال والظاهر أنه فعل مستأنف وأن الواو إنما عطفت جملة على جملة وكأن المعنى الإخبار بأن أهل العلم يرون الوحي المنزل على محمد حقاً وأنه يهدي إلى صراط الله، وقوله ‏{‏الذي أنزل‏}‏ مفعول ب ‏{‏يرى‏}‏، و‏{‏الحق‏}‏ مفعول ثان وهو عماد، و‏{‏الذين أوتوا العلم‏}‏ قيل هم أسلم من أهل الكتاب‏.‏

وقال قتادة هم أمة محمد المؤمنون به كان من كان، ‏{‏ويهدي‏}‏ معناه يرشد، و«الصراط» الطريق، وأراد طريق الشرع والدين، ثم حكي عن الكفار مقالتهم التي قالوها على جهة التعجب والهزء، أي قالها بعضهم لبعض كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه‏:‏ هل أدلك على أضحوكة ونادرة فلما كان البعث عندهم من البعيد المحال جعلوا من يخبر به في حيز من يتعجب منه، والعامل في ‏{‏إذا‏}‏ فعل مضمر قبلها فيما قال بعض الناس تقديره «ينبئكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم»، ويصح أن يكون العامل ما في قوله ‏{‏إنكم لفي خلق جديد‏}‏ من معنى الفعل لأن تقدير الكلام «ينبئكم إنكم لفي خلق جديد إذا مزقتم»، وقال الزجاج العامل في ‏{‏إذا‏}‏، ‏{‏مزقتم‏}‏ وهو خطأ وإفساد للمعنى المقصود، ولا يجوز أن يكون العامل ‏{‏ينبئكم‏}‏ بوجه، و‏{‏مزقتم‏}‏ معناه بالبلى وتقطع الأوصال في القبور وغيرها، وكسر الألف من ‏{‏إنكم‏}‏ لأن ‏{‏ينبئكم‏}‏ في معنى يقول لكم ولمكان اللام التي في الخبر، و‏{‏جديد‏}‏ معناه مجدد، وقولهم ‏{‏افترى‏}‏ هو من قول بعضهم لبعض، وهي ألف الاستفهام دخلت على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت مفتوحة غير ممدودة، فكأن بعضهم استفهم بعضاً عن محمد أحال الفرية على الله هي حاله أم حال الجنون، لأن هذا القول إنما يصدر عن أحد هذين فأضرب القرآن عن قولهم وكذبه، فكأنه قال ليس الأمر كما قالوا ‏{‏بل الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ والإشارة بذلك إليهم، ‏{‏في العذاب‏}‏ يريد عذاب الآخرة لأنهم يصيرون إليه، ويحتمل أن يريد ‏{‏في العذاب‏}‏ في الدنيا بمكابدة الشرع ومكابرته ومحاولة إطفاء نور الله تعالى وهو يتم، فهذا كله عذاب وفي ‏{‏الضلال البعيد‏}‏ أي قربت الحيرة وتمكن التلف لأنه قد أتلف صاحبه عن الطريق الذي ضل عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏9‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ‏(‏10‏)‏ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏يروا‏}‏ لهؤلاء ‏{‏الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 8‏]‏ وقفهم الله تعالى على قدرته وخوفهم من إحاطتها بهم، المعنى أليس يرون أمامهم ووراءهم سمائي وأرضي لا سبيل لهم إلى فقد ذلك عن أبصارهم، ولا عدم إحاطته بهم، وقرأ الجمهور «إن نشأ نخسف» و«نسقط» بالنون في الثلاثة وقرأ حمزة والكسائي «إن يشأ يخسف بهم أو يسقط» بالياء في الثلاثة وهي قراءة ابن وثاب وابن مصرف والأعمش وعيسى واختارها أبو عبيد، و«خسف الأرض» هو إهواؤها بهم وتهورها وغرقهم فيها، و«الكسف» قيل هو مفرد اسم القطعة، وقيل هو جمع كسفه جمعها على حد تمرة وتمر ومشهور جمعها كسف كسدرة وسدر وأدغم الكسائي الفاء في الباء في قوله ‏{‏نخسف بهم‏}‏ قال أبو علي وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم فيها وإن كان الباء تدغم في الفاء كقوله اضرب فلاناً، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقوله «اضرب محمداً» ولا تدغم الميم في الباء كقولك اضمم بكراً، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغنة التي في الميم، والإشارة بقوله تعالى في ذلك إلى إحاطة السماء بالمرء ومماسة الأرض له على كل حال، و«المنيب» الراجع التائب، ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان احتجاجاً على ما منح محمداً، أي لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبدنا قديماً بكذا وكذا، فلما فرغ التمثيل لمحمد صلى الله عليه وسلم رجع التمثيل لهم بسبأ وما كان من هلاكهم بالفكر والعتو، والمعنى قلنا ‏{‏يا جبال‏}‏، و‏{‏أوبي‏}‏ معناه ارجعي معه لأنه مضاعف آب يؤوب، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم معناه سبحي معه أي يسبح هو وترجع هي معه التسبيح، أي ترده بالذكر ثم ضوعف الفعل للمبالغة، وقيل معناه سيري معه لأن التأويب سير النهار كان الإنسان يسير بالليل ثم يرجع السير بالنهار أي يردده فكأنه يؤوبه، فقيل له التأويب ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

يومان يوم مقامات وأندية *** ويوم سير إلى الأعداء تأويب

ومنه قول ابن أبي مقبل‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لحقنا بحي أوبوا السير بعدما *** دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح

وقال مروح ‏{‏أوبي‏}‏ سبحي بلغة الحبشة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف غير معروف، وقال وهب بن منبه‏:‏ المعنى نوحي معه والطير تسعدك على ذلك، قال فكان داود إذا نادى بالنياحة والحنين أجابته الجبال وعكفت الطير عليه من فوقه، قال فمن حينئذ سمع صدى الجبال، وقرأ الحسن وقتادة وابن أبي إسحاق «أوبي» بضم الهمزة وسكون الواو أي ارجعي معه أي في السير أو في التسبيح، وأمر الجبال كما تؤمر الواحدة المؤنثة لأن جمع ما لا يعقل كذلك يؤمر وكذلك يكنى عنه ويوصف ومنه المثل «يا خيل الله اركبي» ومنه

‏{‏مآرب أخرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 18‏]‏ وهذا كثير، وقرأ الأعرج وعاصم بخلاف وجماعة من أهل المدينة «والطيرُ» بالرفع عطفاً على لفظ قوله ‏{‏يا جبال‏}‏، وقرأ نافع وابن كثير والحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر «والطيرَ» بالنصب فقيل ذلك عطف على ‏{‏فضلاً‏}‏ وهو مذهب الكسائي، وقال سيبويه هو على موضع قوله ‏{‏يا جبال‏}‏ لأن موضع المنادى المفرد نصب، وقال أبو عمرو‏:‏ نصبها بإضمار فعل تقديره وسخرنا الطير، ‏{‏وألنا له الحديد‏}‏ معناه جعلناه ليناً، وروى قتادة وغيره أن الحديد كان له كالشمع لا يحتاج في عمله إلى نار، وقيل أعطاه قوة يثني بها الحديد، وروي أنه لقي ملكاً وداود يظنه إنساناً وداود متنكر خرج ليسأل الناس عن نفسه في خفاء، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل فيه الملك ما قولك في هذا الملك داود‏؟‏ فقال له الملك‏:‏ نعم العبد لولا خلة فيه، قال داود وما هي‏؟‏ قال‏:‏ يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يديه لتمت فضائله، فرجع فدعا الله تعالى في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه فعلمه تعالى صنعة لبوس وألان له الحديد، فكان فيما روي يصنع ما بين يومه وليلته درعاً تساوي ألف درهم حتى ادخر منها كثيراً وتوسعت معيشة منزله، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن اعمل‏}‏ قيل إن ‏{‏أن‏}‏ مفسرة لا موضع لها من الإعراب، قيل هي في موضع نصب بإسقاط حرف الجر، و«السابغات» الدروع الكاسيات ذوات الفضول، قال قتادة داود عليه السلام أول من صنعها، ودرع الحديد مؤنث ودرع المرأة مذكر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقدر في السرد‏}‏ اختلف المتأولون في أي شيء هو التقدير من أشياء السرد، إذ السرد هو اتباع الشيء بالشيء من جنسه، قال الشماخ‏:‏ «كما تابعت سرد العنان الخوارز»، ومنه سرد الحديث، وقيل للدرع مسرودة لأنها توبعت فيها الحلق بالحلق ومنه قول الشاعر ‏[‏القرطبي‏]‏‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود أو صَنَعُ السوابغ تبع

ومنه قول دريد بالفارسي المسرد، فقال ابن زيد‏:‏ التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة أي لا تعملها صغيرة فتضعف ولا تقوى الدرع على الدفاع ولا تعملها كبيرة فينال لاسبها من خلالها، وقال ابن عباس التقدير الذي أمر به هو المسمار يريد ثقبه حين يشد نتيرها، وذكر البخاري في مصنفه ذلك فقال‏:‏ المعنى لا تدق المسمار فيسلسل، ويروى فيتسلسل، ولا تغلظه فيقصم بالقاف، وبالفاء أيضاً رواية، وروى قتادة أن الدروع كانت قبله صفائح فكانت ثقالاً، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع بين الخفة والحصانة، أي قدر ما يأخذ هذين المعنيين بقسطه، أي لا تقصد الحصانة فتثقل ولا الخفة وحدها فتزيل المنعة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعملوا صالحاً‏}‏ لما كان الأمر لداود وآله حكى وإن كانوا لم يجر لهم ذكر لدلالة المعنى عليهم، ثم توعدهم تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏إني بما تعملون بصير‏}‏ أي لا يخفى علي حسنه من قبيحة وبحسب ذلك يكون جزائي لكم‏.‏